د.خالد عبدالله الخميس
هل مرت بك خسارة فادحة؟
هل فقدت عزيزًا؟
هل أوقفت ترقيتك؟
هل يزعجك التعامل مع مديرك أو أحد من زملائك؟ 
هل حصل لك هذا أو ذاك أو شبيه به؟
ألم تكن مشاعرك ملؤها الحزن والكآبة لتعرضك لمثل هذه المواقف؟
هل حصل هذا لآخرين وحصل لهم من الكآبة أكثر مما حصل لك؟
هل حصل هذا لآخرين غيرهم لكنهم استطاعوا التعامل مع مثل هذه المصائب بشكل متعقل؟
هل تريد أن تعرف لماذا تختلف عن الآخرين ولماذا يختلف عنك الآخرون في استجاباتهم لما يعترض من مشكلات؟
هل تريد أن تعرف السبب في قدرة البعض على التعامل المتعقل وفشل البعض؟
لماذا تغضب لأتفه الأسباب؟
لماذا تكتئب لأتفه المشكلات؟
لماذا تقلق من مواقف لا تستحق القلق؟
لماذا تتضايق عندما ترى فلانًا وتبتهج عندما ترى فلانًا؟
إنه الاستعراف …
هو حقيقة ما يدور بينك وبين نفسك من حوارات وأفكار يومية حول تفسير الأحداث والمشاكل اليومية والمستقبلية والماضية.
هو البوابة الرئيسية للعواطف والانفعالات السعيدة والحزينة.
الحزن يأتي بعد فكرة …
والفرح يأتي بعد فكرة …  والخوف يأتي بعد فكرة …
وكذا جميع المعاناة النفسية تأتي بعد أفكار. وعلى حسب كيف تُصنع الفكرة تتكون مادة الانفعال، إذ لا يمكن أن تنفعل بدون استعراف ولا يمكن أن تحزن أو تقلق بدون أفكار مسبقة.
قف مع نفسك وأنت في وضع حزين!!!
تجد أن انفعال الحزن سبقه تفكير في شيء يثير الحزن، والحزن لا يأتي بدون سبب كما يشاع بل يأتي بعد استعراف. إن محتوى مادة التفكير هي ما قاد مشاعرك للإحساس بعاطفة الحزن. إن قصر مدة التفكير في المشكلة التي سببت الحزن والكآبة هي ما جعلتك تغفل أن سبب الكآبة جاء من خلال عنصر التفكير أو الاستعراف. إن ثانية واحدة من الاستعراف جديرة بأن تجعلك تشعر بالحزن لساعة كاملة وربما استعراف من نوع آخر يجعلك تشعر بالبهجة لساعات طوال. الحاصل أنك لو أمعنت النظر مليًا في الموقف الذي يثير القلق أو يثير الكآبة فستكتشف أنه سبقها استعراف معين بتذكر حدث ما أو خيالات أو صور لأحداث قمت بتفسيرها بشكل موجع.
إن الاستعراف يساوي= حدث + تفسير الحدث.
إن الأفكار تسبق المشاعر فكل المشاعر الانفعالية تتكون من خلال تفكير معين، والمعنى أن العقل فوق العاطفة. إذا اتفقنا على هذه النقاط فإن هذا يقودنا للبحث عن موضوع أصعب وهو كيفية الاستعراف بشكل سليم وكيفية توجيه أفكارنا للمواضيع الإيجابية.
اسأل نفسك عندما تكون متضايقًا أو منزعجًا أو غضبان إلى أين يذهب تفكيرك؟ وإلى أين يسرح خيالك؟ وما الموضوع والصور الذهنية التي سبقت الانزعاج. ستجد أنه قد ذهب إلى فتح ملفات استعرافية مزعجة سببت لك مشاعر الانزعاج. والمعنى أنك كلما استعرفت موضوعًا بطريقة سلبية نتج عنه انفعال سلبي، وكلما استعرفت موضوعًا بطريقة إيجابية نتج عنه مشاعر إيجابية.
إن إدراكك سبب المشاعر السلبية سيسهل عليك حلها. وإن اكتشاف الأفكار التي تؤدي لمشاعر الحزن والخوف مثلاً سيجعلك تغير من مقولتك: أنا حزين لكني لا أدري ما السبب. بل ستقول أنا حزين لأني أفكر بطريقة غلط. إن اكتشاف السبب هو الخطوة الأولى لحل المشكلة.
السؤال الصعب الذي لا يمكن إجابته من خلال سطر أو سطرين؛ هو كيف نستعرف (صح) ونعدل من خطأنا في الاستعراف. هنا لابد من جلسة مع مختص في العلاج الاستعرافي فلديه خطة في تنظيم الأفكار وإرشادات تهندس الاستعراف في قوالب منطقية. ربما ستجد صعوبة في بداية الأمر في تنقل الذهن من الأفكار القديمة إلى الأفكار الجديدة لكن هذه المهارة بالعزم والمثابرة ستكتسب من التمرين وتصبح مسألة تلقائية.
الخاصية المبدعة لدى الاستعرافيين أنهم لا يتهربون من المواجهة مع أي موقف تعرض له المرء مهما كان مشينًا ومعيبًا، هم لا يقولون لا تفكر في هذه الخبرة المشينة أو تلك، لأنهم يدركون أن التجنب هو ما يزيد من إلحاح الفكرة على الذهن ومعاودتها المرة تلو الأخرى، وهو ما يقود إلى موجات عنيفة من الذعر والعصبية.
إن الاستعرافيين يقولون تعال نفكر في تلك الخبرات المشينة ونضع لها قالبًا منطقيًا يخفف أو يلغي مشاعر المخاوف والأحزان. إنهم يعيدون صياغة المواقف الصعبة في قالب منطقي جديد يمكن المرء من تذكرها ومواجهتها دون أن يحدث له موجة حادة من الانفعالات. بل والأجمل أنهم يحولون بعض الأفكار التي نعدها مؤلمة إلى أفكار محببة.
إنه على الرغم من علاقة الاستعراف بطريقة التفكير إلا أن الغريب في الأمر أنه لا علاقة له بالذكاء العقلي. قد يكون شخص منخفض الذكاء يتمتع بقدرة عالية في الاستعراف الإيجابي بشكل يفوق من هو عالي الذكاء. وكما قال الأول:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله **** وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
هناك أفراد يتميزون بذكاء من نوع مختلف عن الذكاء العقلي المشاع وهو ما يسمى بالذكاء الاجتماعي، إن من يتمتع بالذكاء الاجتماعي يحسن التكيف ببراعة مع الآخرين ومع المواقف الاجتماعية ويمتلك مهارات اجتماعية تجعل شخصيته جذابة. سبب جاذبيتهم يرجع ببساطة إلى أنهم يتمتعون بقدرة فائقة على الاستعراف السليم في المواقف الاجتماعية.
أخي القاري أتريد أن أبوح لك بسر قبل أن أختم المقالة: كل من يكتب هو في واقع الأمر يمارس استعرافًا منظمًا. فالكتابة تساعد على استعراف المشكلات بشكل متوازن. اعرض ما كتبت على المختص بالعلاج المعرفي ستجده سيفتح لك مواضيع ما كانت في الحسبان وسيرشدك للأفكار المنطقية والأفكار غير المنطقية.
أتريد أن أصارحك بشيء قد يغنيك عما قيل بل هو أفضل ما قيل:
إن المؤمن الحق الذي يستمد استعرافاته من القوانين الإيمانية كقانون الإيمان بالقضاء والقدر وقانون احتساب الأجر عند الله وقانون الصبر والمصابرة لديه طاقة معرفية جبارة تتحدى تأثير المصائب مهما عظمت، وتمنع نشوء أي انفعالات سالبة جراء المشكلات اليومية. إن القوى الإيمانية تمثل دروعًا وقائية أمام غزو المصائب والمشكلات.
إن الاستعرافات الإيمانية التي تؤتي أثرها هي تلك المبنية على الإيمان القوي العميق وليس على مجرد الإيمان السطحي والتحمس الخاوي الذي يظن صاحبه أنه قوي الإيمان ولكن حين مواجهة مصائب الدنيا ينهار أو يجزع. اسأل نفسك ما مقدار تمثل الآية التالية في نفسك عندما يعتريك مشكلة خسارة أو مصيبة، تأمل بروية وقع هذه الآية في نفسك عند حصول المصيبة: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير. لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم). اسأل نفسك سؤالاً عميقًا عن مدى قوة التلازم بين حصول المصيبة وبين العمل بهذه الآية، إذا كان استعرافك لتلك الآية عميقًا فإن انفعالات الكآبة والغضب في الأساس لن تتكون عند مواجهة المصائب، أما إذا كان الاستعراف سطحيًا فإن مشاعر الأسى والكآبة ستتمكن منك. وعلى قوة إيمانك بهذا التوجيه الرباني سيتحدد مستوى استجابتك للمصيبة. إن هناك فرقًا بين القناعة السطحية والقناعة المقترنة بالمشاعر. إن القناعات الإيمانية هي كأي قناعة أخرى لها مستويات فقد يكون مستوى القناعة صفرًا من عشرة أو عشرة من عشرة. اسأل نفسك إلى أيهما تنتمي. فعلى حسب الدرجة يتحدد مستوى الاستعراف الإيماني.
ختامًا: (استعرف صح تعش صح). تأمل هذا الاستعراف الجميل في هذا البيت الجميل:
قل لمن يحمل همًا إن همك لن يدوم **** مثلما تفنى السعادة هكذا تفنى الهموم
للاستزادة يمكن الرجوع إلى:
– كتاب «المرشد في العلاج الاستعرافي السلوكي» للدكتور ناصر المحارب.
– كتاب العقل فوق العاطفة للمؤلف باديسكي وغرينيبرغر. ترجمة مأمون المبيض.
بقلم :د.خالد عبدالله الخميس .
المصدر: