الفكر يشوّه الواقع .. عنوان مقال رائع قرأته للدكتور الفاضل عبدالكريم بكار .. ومما جاء فيه قال الدكتور :ـ

طالما أبدى العقل البشري ألوانا من العجز عن إدراك الواقع الذي دائما نتباهى بفهمه والتصرف به والسيطرة عليه. ومنبع عدم إدراكنا على نحو صحيح للواقع، يتمثل أساساً في جهلنا بطبيعة الواقع وصعوبة التعامل معه، فنحن نظن دائما أن معرفتنا بالواقع تامة، ونستغرب كلام من يقول: إن إدراكنا للواقع على نحو تام صعب أو مستحيل. ولذا فإننا في فهمنا للواقع نستخدم ماتزودنا به الحواس، أو ماتلقيه أمام أعيننا البديهة، دون أن نكلف أنفسنا التدقيق في صدق ما استخلصناه، أو في صدق الأحكام التي أصدرناها. إن الواقع يملك إمكانية كبيرة على الالتواء والانثناء والاحتجاب؛ وعلاقة أذهاننا به ليست علاقة قابض مع مقبوض ، ولاعلاقة آخذ مع مأخوذ، وإنما هي علاقة تفاعلية بين ذاتين لينتين، مما يقضي بصحة القول: إن محاولات فهمنا للواقع هي أيضا محاولات إنتاج جديد له ….

ومما قاله الدكتور أيضاً : ولست أبالغ إذا قلت : إن كثيرا من الناس حين يحاول تصوير واقع ما، لا يستخدم عقله في محاولة إدراك حقيقية مايجري، وإنما يلتقط صوراً محددة من ذلك الواقع، وهي بالتحديد تلك الصور التي يمكنها أن تغذي خيالاته ومعتقداته وأحلامه التي امتلكها مسبقا حول ذلك الواقع. وبذلك فإنه يصور لنا الواقع ليس على ماهو عليه، ولكن على ما يشتهي أن يكون عليه! وهذا كله كثيرا ما يتم على نحو تلقائي بريء ومن غير قصد تشويه أو تزوير، وهذا ما يجعل تصحيحه صعبا. لابد أن نعترف أولاً بقصور الأدوات التي تمكننا من فهم الواقع. ولابد أن نعترف أيضا بأن الواقع الذي نريد فهمه يتمتع بطبيعة زئبقية؛ فهو يستعصي على التشكيل. وهذا وذاك يدفعنا دفعا إلى الرضا باجتراح سطحي له ، وبإدراك جزئي غير مكتمل ، وقابل للجدل والنقاش، فضلا عن أنه قابل للزلل والخطأ أيضاً. وحين نؤمن بهذا نستطيع أن نسير في الاتجاه الصحيح لفهم الواقع، وذلك عبر استقصاء منهجي له من خلال تحديد التعريفات وتقسيم الواقع إلى أصغر وحدات ممكنة، ومن خلال القيام بتحريات منظمة، وتسجيل المشاهدات ، وإجراء الإحصاءات التي تساعدنا على زيادة قدرات حواسنا الضعيفة والمحدودة. وبعد هذا كله نقول : إن التوصيف الذي توصلنا إليه ليس كاملا، لكنه مناهز للكمال ومقارب له. وإذا لم نفعل ذلك فإن توصيفاتنا للواقع لا تصوره بمقدار ما تصور جهلنا وغرورنا وقلة صبرنا على التعامل مع الأشياء الدقيقة.