إن الأجدر بالدراسة و الاهتمام هو الإعجاز السلوكي و الأخلاقى فى الإسلام من خلال مقارنة سلوكيات و أفعال الرسول “صلى الله عليه وسلم” و أسلوبه في تعديل سلوك وعادات من حوله طبقاً لمعطيات العلوم السلوكية و علم النفس المعرفي السلوكي الحديث ولأساليبه وميادين تطبيقه, والتحكم فيها و تعديلها نحو خير الفرد و المجتمع , ومن خلال مقارنة ما ورد في القرآن الكريم من نصوص و إشارات و توجيهات لتعديل السلوك الإنساني وما قدمه الرسول- صلى الله عليه و سلم- من نماذج و تطبيقات عملية للسلوك السوي وكيفية ضبطه و تعديله بما توصلت إليه الدراسات الحديثة يدل بصورة قاطعة على أن القرآن ليس من عند محمد, بل هو من عند الخالق العظيم العالم بالنفس الإنسانية التي خلقها وأبدع صنعها.
إن العادات السلوكية كما -أثبتت الكثير من الدراسات الحديثة- متعلمة و مكتسبة من البيئة, وبرغم دور الوراثة و الجينات و العوامل البيولوجية فإن الدور الحاسم في تشكيل سلوكيات و عادات الفرد يرجع إلى قوانين التعلم و التكرار و الاقتران و الترابط, و جميعها نتاج البيئة و تكتسب ابتداء من مرحلة الطفولة, وهي نتيجة التدعيم الايجابي أو السلبي الذي يأتي من الآباء و الأقارب والمعلمين ومن نماذج القدوة التي يتوحد معها و يحاكيها الفرد و يقلدها. فمن الذي علم الرسول إلا الله العلي القدير, ومن كان قدوته في مثل تلك البيئة الجرداء القفراء, وهل يمكن أن يكتسب هذا الكم من العادات و السلوكيات الإنسانية الراقية المهذبة المنظمة من بيئة لا تعرف ولا تدعم إلا السلوكيات السلبية والعادات الانفعالية. إن الإنسان لا يستطيع أبداً –وهذا ما أثبتته تجارب و دراسات علم النفس السلوكي- أن يبتكر سلوكاً و عادات غير موجودة في بيئته الأصلية , وأن قدرة الإنسان على ذلك محدودة جداً, ولا يمكن أن تصل إلى وضع هذه المنظومة المتسعة من قواعد السلوك و القدرة على تعديل السلوكيات الراسخة في جذور النشاط العصبي و النفسي للفرد .. وأن الإنسان كثيراً ما يفشل في تغيير سلوك أحد أبنائه أو حتى في التخلص من عادة سيئة اعتاد هو نفسه عليها. إن سلوكيات الرسول وتعاليمه و إرشاداته والنماذج العملية التي قدمها لتغيير من حوله لا يمكن أن تصدر من شخص عادي نشأ في بيئة فقيرة في كل شئ , لا يعرف الناس فيها حتى آداب الحوار و المخاطبة و قواعد العلاقات الإنسانية السليمة.
الإعجاز السلوكي في شخصية الرسول: إن التاريخ يشهد بأن التغيير في سلوكيات و عادات أي مجتمع لا يمكن أن يحدث خلال سنوات قليلة إلا باستخدام الحزم و القوة و العنف الذي قد يصل إلى حد البطش, و الذي قد يظلم و يقهر البعض في سبيل المجموع .. فجميع الثورات التي غيرت المجتمعات في غضون سنوات قليلة تميزت بفرض نظم صارمة تبطش كالإعصار بمن يقف في طريقها.. ولا تفرق ولا تميز بل تفرض النظم و القوانين القاسية علي الجميع بالقوة الغاشمة فيتغير الناس نتيجة الخوف .. أما الإسلام فقد عدل في سلوكيات أفراد المجتمع وعاداتهم بالإقناع والرفق والرحمة فأنصف المظلومين وحرر العبيد المقهورين. لقد كانت بلاد العرب قبل الإسلام موطناً للوثنية و الجمود والقسوة و العنف .. فكيف تغيرت خلال سنوات قليلة في عصر النبوة إلى مجتمع فاضل يلتزم أفراده بسلوكيات متحضرة ؟! ….. وكيف تغيرت سلوكيات وعادات الناس وقتها فتعلموا الضبط الذاتي و تخلصوا من العصبية و الغضب بالحلم و تخلصوا من الحقد و العدوانية وتعلموا الرفق و العفو و الإحسان, و كيف تحول الحرص على جمع المال و النهم و الطمع إلى سخاء و مساعدة الفقير و المحتاج.؟ بل كيف تخلصوا من إدمان الشراب و أسوأ الخصال كالغيبة و النميمة و الرياء و آفات اللسان الأخرى كالسب و الفحش و السخرية و الاستهزاء بالآخرين .. فكيف تحولت هذه السلوكيات إلى آداب و سلوكيات راقية .. لا شك أننا أمام معجزة بكل المقاييس لأنها تمت في سنوات محدودة و على مستوى جماعي لم يحدث ولن يحدث في التاريخ البشري . لقد استطاع الرسول – صلى الله عليه و سلم- تحويل القبائل المتناحرة والجماعات الغوغائية التي تغير على بعضها البعض وتستحل الدم و الحرمات وتتفاخر بعدوانها و اغتصابها للحقوق .. إلى جماعات متضافرة تلتقي حول أهداف سامية و يحكم علاقاتها نظم و قواعد راقية ومشاعر الحب و العطف و الإحسان. إن أساليب تعديل السلوك التي وردت في التشريع الذي نزل به القرآن وقدمه الرسول في نماذج عمليه تتفق مع أحدث نتائج أبحاث ودراسات علوم النفس والسلوك و بيولوجيا الجهاز العصبي في الإنسان .. وهى تمثل إعجاز وتحديًا علميًا وأساسًا لمنهج إسلامي في ضبط وتعديل السلوك البشري .. يمكن الاستفادة العملية منه في العديد من مجالات الصحة النفسية وعلاج المشكلات النفسية و الاجتماعية .. و تطوير المجتمع من خلال إطلاق طاقات العقل البشري المكبل بالقيود و الصراعات و المشكلات النفسية و التي أصبحت كالغراء يلصقنا بالتخلف و الجمود ومن أساليب تعديل السلوك التي وردت في القرآن و السنة و التي تمثل إعجازاً علمياً حيث أنها وردت أيضاً في الأبحاث العلمية الحديثة و دراسات علماء معاصرين .. ما يلي:-
أولاً: شخصية الرسول و التو كيدية: التو كيدية Assertiveness هي تأكيد الذات و القدرة على التعبير عن المشاعر و الأفكار بدرجة عالية من الصحة النفسية و الفاعلية , ولقد أخذ هذا المفهوم أهميته العلمية بعد دراسات العالم الأمريكي “سالترSalter ” عام 1994 و الذي أكد فيه أهمية التو كيدية ( تأكيد الذات) كخاصية أو سمة شخصية مثلها مثل الانبساطية أو الانطواء . ولقد أشار أيضاً كلاً من ” ولبي Wolpe” و”لازاروس lazarus” قبل ذلك بسنوات إلى هذه الخاصية كقدرة يمكن من خلال تدريبها تحقيق درجات أعلى من الصحة النفسية , ويمكن أيضاٌ من خلال دراستها فهم المشكلات الاجتماعية والنفسية و علاجها, و لذلك اتجه عدد كبير من العلماء إلى ابتكار برامج لتنمية و تدريب هذه القدرة . و التوكيدية ليست مجرد مهارات اجتماعية للتعبير عن النفس و الدفاع عن الحقوق الشخصية للفرد بل إن لها معاني أخرى متعددة منها مهارة التصرف بحكمة وفق ظروف و متطلبات كل موقف , ويحتاج الشخص الذي يرغب فى اكتساب وممارسة هذه المهارات والقدرات إلى توافر سمات شخصية إيجابية ناتجة – كما يقول دولارد وميللر – عن تعلم طويل الأمد يبدأ منذ الطفولة تقوم به البيئة كارتباطات متكررة بين منبهات واستجابات تشكل فى النهاية مجموعة من العادات أو الأساليب الاعتيادية للاستجابة التي تعلمها الشخص من المحيطين به ودعمتها البيئة على مدار سنوات طويلة , والذي يدرس سلوكيات الرسول – صلى الله عليه و سلم – في المواقف المختلفة يلمس التو كيدية بمفهومها الذي أشارت إليه الدراسات الحديثة حيث تجمع بين المهارات الاجتماعية و الدفاع عن الحقوق بالحكمة و اللين و الرحمة و الموعظة الحسنة, ولكنه لا يجد من علمه ممن يحيط به , ولا يلمح أي أثر للبيئة التي تغرس السلوكيات الإنسانية والسمات الإيجابية الطيبة وترعاها وتدعمها .. فمن الذي علمه إلا الله رب العالمين ؟! ومن أين له بهذه القدرات و المهارات التي لا يمكن أن تنشأ فجأة في مجتمع كانت مهارات أفراده تتركز حول القوة الغاشمة و العدوان على الأخر.. هذا هو الأعجاز أعلى وأرقى درجاته . ومن أسس التو كيدية – كأسلوب للصحة النفسية و السلوك القويم – ما جاء في حديث الرسول – صلى الله عليه و سلم – :”لا يكن أحدكم إمعة , يقول:أنا مع الناس , إن أحسن الناس أحسنت , وإن أساؤوا أسأت !!.. ..” الحديث “عن الترمذي” فقد جسد الرسول للمسلمين قوة اليقين في شخصه, و روعة الإيمان و الثبات على المبدأ و عدم الخوف من الباطل , و عن ابن عباس عن رسول الله –صلى الله عليه و سلم – ” من أسخط الله في رضي الناس سخط الله عليه .. .. ” الحديث فعلى المسلم أن يتجاهل حماقات الحمقى و أن يستخف بما يلقاه من ظلم و سخرية و استنكار عندما يخرج عن مسيرة الباطل أو يشذ عن عرف الجهال , و أن يقول رأيه بثبات و لا يخشى فى الله لومه لائم , وأن يمضى إلى غايته بثقة في عون الله و تأييده , لا يخشى من قسوة النقد أو الهمز و اللمز أو تجريح الألسنة مادام على حق .
ثانياً: تعديل السلوك بالتأمل و التفكير: من الإعجاز السلوكي في القرآن و السنة أن يتفقا مع أحدث دراسات علم النفس و أبحاث العلاج و تعديل السلوك الإنساني و مع مدارس العلاج المعرفي السلوكي (Cognitive behavioral therapy) التي أسسها أرون بيك “Aaron Beck” و مدرسة العلاج العقلاني ” Rational Emotive Therapy” التي أسسها ألبرت إليس “Albert-Ellis” … و غيرها و التي كشفت و فندت الكثير من الافتراضات الخاطئة للتحليل النفسي التقليدي و المدارس التابعة له .. و جميع هذه الاتجاهات الحديثة تعتمد في تعديل سلوك الفرد على تعديل التفكير و المفاهيم و التصورات السلبية الخاطئة. ويرى عالم النفس ” كانفرKanfer ” من جامعة إلينوي بأن فاعلية العلاج النفسي و تعديل سلوك الإنسان يعتمد في الأساس على عوامل ذات طابع ذهني و فكري , و قد أكد ولبي “Wolpe” أن التغيرات الايجابية في السلوك تحدث نتيجة تأكيد الذات و أنها تشمل ضمناً تغير في طريقة تفكير الفرد و في تقديره للأشياء , و أن مخاوف الفرد تكون في كثير من الأحيان مبالغات و تشويه للواقع و يحدد الرسم التخطيطي التالي العلاقة بين التفكير و الانفعال و السلوك و أنها علاقة دائرية متصلة يدخل فيها الدوائر العصبية التي تتحكم في النشاط العصبي و الهرموني للجسم ولقد حرص القرآن الكريم على دعوة الإنسان للتفكر و التدبر و التأمل و التعلم و قد اتبع الرسول في كل مواقفه هذا المنهج و جسده فكراً و عملاً. فالقرآن الكريم بدأ آياته بدعوة الإنسان للتعلم ” أقرأ” و كرر توصية الإنسان بالتفكر ” أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات و الأرض وما بينهما إلا بالحق و أجل مسمى”(الروم 8) ..”و في أنفسكم أفلا تبصرون”..! ولقد كان أول شئ علمه الله تعالى لأدم عليه السلام هو أسماء جميع الأشياء ” وعلم أدم الأشياء كلها”و تؤكد الدراسات الحديثة أن تعلم أسماء الأشياء هو تعلم المفاهيم و الرموز و القدرة على التفكير التجريدي و هي أهم خطوات تعلم التفكير التي تساعد على التحليل و التركيب و المقارنة و التمييز واتخاذ القرارات وحل المشكلات.
ثالثا: النمذجة و المحاكاة: أستخدم الرسول –صلى الله عليه و سلم – أسلوب تقديم نماذج سلوكية تطبيقية في مواقف حية overt modeling ( وربما كان هذا من أحد أباب نزول القرآن منجماً حسب الأحداث و المواقف) والتي تمثل أفضل أساليب التعلم و أكثرها تأثيراً , فقد قدم القدوة و عرض طريقه و أسلوب السلوك الصحيح في كل موقف من المواقف , و استعان بالتصوير و التجسيد و تنشيط المخيلة و القدرة على التوقع و التصور , كما استعان بالقصص و الأمثال و تجسيد المشاهد و تقديم البيانات اللفظية و العملية ليشرح المواقف التعليمية التي تسهل عمليات التعلم و تساعد الإنسان على تغيير تصرفاته و التغلب على العادات و السلوكيات السلبية. ولقد أتاح ذلك للمسلمين التعلم بالملاحظة كأحد أهم وأحدث أساليب التعلم وتعديل السلوك والتي وردت في دراسات العديد من العلماء المعاصرين و منهم أ لبرت باندورا “Albert Bandora” و في أبحاث أصحاب نظرية التعلم الاجتماعي Social (observational) learning.
د\رامز طه
التعليقات