بالرغم من أن النماذج النفسية المبكرة جاءت من منظور نفس ديناميكى ، إلا أنه لم يكن هناك تدعيم أو تأييد إمبريقى للنظريات النفسية الديناميكية الخاصة باضطراب الوسواس القهرى، وكان لهذا المنظور تأثير قليل على تطور أشكال العلاج الفعالة لهذا الاضطراب. وعلى النقيض من ذلك ، اكتسبت النظريات المعرفية والسلوكية ذيوعاً وشهرة فى السنوات الأخيرة ، وأدت إلى تطوير استراتيجيات من أجل علاج اضطراب الوسواس القهرى بنجاح.
فلقد نبعت النماذج السلوكية المبكرة الخاصة باضطراب الوسواس القهرى من نموذج العاملين لـ Mowror لاكتساب الخوف. وبصفة خاصة ، افترض النموذج السلوكى أن اضطراب الوسواس القهرى هو نتاج للأفكار والدوافع والاندفاعات العادية الطبيعية التى ترتبط بالقلق من خلال عمليات التشريط الكلاسيكى. ووفقاً لهذه النظرة ، فإن أعراض اضطراب الوسواس القهرى تتحقق عن طريق الهروب ، والتجنب ، وعدم القيام بالسلوكيات (مثل الطقوس القهرية) التى تمنع حدوث انطفاء القلق. وقد أدت هذه النظرة إلى تطوير علاج سلوكى فعال لاضطراب الوسواس القهرى يتألف من التعرض للمثيرات المؤدية للخوف ومنع الطقوس القهرية. (Antony & Swinson, 2001, p.69) . إلا أن بعض الباحثين وصف هذه النظرة السلوكية التقليدية بأنها ذات فائدة محدودة ، فعلى سبيل المثال ، لا يقوم العديد من المرضى الذين يعانون من اضطراب الوسواس القهرى باستدعاء خبرات شرطية معينة تفسر أعراضه عندهم ، وبعض الأفراد لا يستجيبون للتعرض ومنع الاستجابة. (Salkovskis, 1998)
وقد ساهمت جوانب القصور التى ظهرت فى النماذج السلوكية ، فى ظهور نماذج معرفية لعلاج اضطراب الوسواس القهرى. ومن بين النماذج المهمة فى تطوير استراتيجيات العلاج المعرفى السلوكى لاضطراب الوسواس القهرى تلك التى وصفها كل من Salkovskis (1985 ، 1989) ، و Rachman (1997 ، 1998 ، 2003) وآخرون.
وقد ركز هذا العمل الرائد بصفة خاصة على أهمية تقييمات المرضى لأفكارهم الاقتحامية المتعلقة بالمسئولية ، وكانت قيمة هذه النماذج لا يمكن أن تقدر فى توضيح وشرح جوانب معينة من المرض النفسى فى اضطراب الوسواس القهرى والتى تم دراستها وفحصها إمبريقياً. (Sookman & Steketee,2007).
وقد بدأت فى الآونة الأخيرة تركز الدراسات العلاجية الخاصة باضطراب الوسواس القهرى على التغيرات المعرفية التى يفترض أنها تكمن وراء هذا الاضطراب. ويمكن أن يساعد اختبار التغيرات المعرفية فى الدراسات العلاجية على التعرف على وفهم العمليات المعرفية المضطربة وظيفياً فى اضطراب الوسواس القهرى. ويساعد أيضاً فى تطوير إجراءات العلاج الفاعل التى تستهدف هذه العمليات. (Abramowitz et al., 2003)
ويتضمن نموذج Salkovskis (1985) أن العلاج المعرفى يجب أن يركز على تعديل الأفكار والمعتقدات الآلية المرتبطة بالمسئولية عن الضرر. وعلى أية حال ينتقد المنظرون هذا النموذج على أساس أنه يفرط فى التأكيد على دور المسئولية ، ويؤكدون على ضرورة إعطاء مزيد من الاهتمام للمعتقدات ما وراء المعرفية الخاصة بالحاجة إلى التحكم فى الأفكار عند العلاج. (Wells,1997, p.238) وأثناء تطور النماذج المعرفية النظرية الخاصة باضطراب الوسواس القهرى ظهر عدد كبير من المفاهيم. وقد أكدت الرؤى المختلفة على أهمية دور المعتقدات الكمالية ، والمسئولية المتضخمة ، وجوانب النقص أو القصور المعرفية ، أو الجوانب المعرفية الشاذة فى صنع القرار ، والدمج بين الفكر والفعل ، والمعتقدات ما وراء المعرفية. (Wells, 1997, p. 237)
وإذا كان الاختلاف فى المفاهيم النظرية وعدم توافر إطار عمل متفق عليه بصفة عامة ، وقصور البحوث حول الأبعاد المعرفية للوساوس يسهم فى عدم تطور نماذج معرفية خاصة باضطراب الوسواس القهرى ، ويجعل مرضى اضطراب الوسواس القهرى يستمرون فى كونهم يمثلون تحدياً لأخصائى العلاج.
لذا فقد افترض أن ما وراء المعرفة قد تطور من فهمنا لاضطراب الوسواس القهرى ، وتشير ما وراء المعرفة إلى المعارف أو المعتقدات الخاصة بالتفكير والاستراتيجيات المستخدمة فى تنظيم وضبط عمليات التفكير. وقد قام Wells و Matthews
(1994) بافتراض أول نموذج ما وراء معرفى متكامل لاضطراب الوسواس القهرى، وقد تم تقنينه بعد ذلك بمعرفة Wells (1997). ويؤكد هذا النموذج على المعتقدات الخاصة بمعنى ودلالة الأفكار الاقتحامية ، وتنقسم المعتقدات ما وراء المعرفية الخاصة بهذه الأفكار إلى ثلاثة مجالات واسعة: الدمج بين الفكر والفعل ، الدمج بين الفكر والحدث، الدمج بين الفكر والموضوع. وفى نموذج Wells يشير الدمج بين الفكر والفعل إلى الدمج بين الأفكار والأفعال ، مثال: اعتقاد الفرد بأن توافر الأفكار السيئة لديه يعنى أنه سيقوم بفعل سيئ ، ويشير الدمج بين الفكر والحدث إلى الاعتقاد الذى يقول بأن التفكير يمكن أن يسبب حدوث حدث ما أو يكون فى حد ذاته دليلاً على حدوثه ، مثال : اعتقاد الفرد بأنه إذا ما فكر في أحد الأحداث السيئة (موته ، كارثة لأهله ، فشله) فإن تفكيره سيجعلها تحدث بصورة كبيرة ، ويشير الدمج بين الفكر والموضوع إلى اعتقاد الفرد بأن الأفكار ، أو المشاعر أو الذكريات يمكن أن تنقل إلى أناس آخرين أو إلى الموضوعات، مثال: اعتقاد الفرد بأن بعض الموضوعات تصدر عنها أفكار سيئة، أو اعتقاده بأن أفكاره وذكرياته يمكن أن تتحول إلى سلوك ، فإذا طرأت على ذهنه فكرة أن هذا الطعام ملوث ، فإن هذا يعنى أنه قد تلوث بالفعل. ويبرز النموذج ما وراء المعرفى أيضاً فكرة أن مرضى الوسواس القهرى لديهم معتقدات ما وراء معرفية إيجابية عن ضرورة أداء الطقوس القهرية استجابة للأفكار الوسواسية الملحة التى تشعرهم براحة مؤقتة ، ولكنها في الواقع تؤدى إلى استمرار وتفاقم خطورة وحدة الأعراض الوسواسية القهرية. (Fisher&Wells, 2005)
إن التدعيم الإمبريقى لدور ما وراء المعرفة فى اضطراب الوسواس القهرى يتراكم بصورة ثابتة. وهناك أدلة موجودة تشير إلى أن الدمج بين الفكر والفعل يلعب دوراً مهماً ودالاً فى الوساوس الكلينيكية. فقد أظهرت نتائج الدراسة التى قام بها كل من Fisher & Wells إلى أن المعتقدات ما وراء المعرفية (الدمج بين الفكر والفعل الدمج بين الفكر والحدث ، الدمج بين الفكر والموضوع) تعد منبئات بالأعراض الوسواسية القهرية ، مقارنة بمعتقدات المسئولية المتضخمة بعد ضبط القلق والاكتئاب لكل منهما . (Fisher& Wells, 2005)
كما قامت المجموعة العاملة الخاصة بالمعارف الوسواسية القهرية ObsessiveCompulsive Cognitions Working Group (OCCWG) بتحديد عدة مجالات للمعتقدات المضطربة وظيفياً(*) والتى ترتبط بالوساوس والطقوس بالإضافة إلى المعتقدات الخاصة بالمسئولية ، وتتضمن هذه الأبعاد الأهمية الزائدة والحاجة إلى التحكم فى الأفكار الوسواسية الاقتحامية، والتقدير الزائد للتهديد والخطر ، والتعصب وعدم التسامح بشأن عدم التأكد والكمالية. كما قدمت هذه المجموعة بعض الأبحاث تدعيماً وتأييداً لأهمية مخاطبة وتناول المعتقدات المعرفية عالية المستوى فى اضطراب الوسواس القهرى. فعلى سبيل المثال ، وجد أن الوعى الذاتى المعرفى (وهو عبارة عن ميل إلى الوعى بالتفكير ومراقبته) هو البعد ما وراء المعرفى الوحيد الذى ميز اضطراب الوسواس القهرى الأكثر ارتفاعاً عن مرضى اضطراب القلق المعمم . (Sookman&Steketee, 2007)
ويتنبأ النموذج ما وراء المعرفى لاضطراب الوسواس القهرى بأن تعديل المعتقدات ما وراء المعرفية (التقدير الزائد للتهديد – المسئولية المتضخمة – التيقن والكمالية – عدم القدرة على التحكم في الأفكار والخطر – الحاجة للتحكم في الأفكار – الوعى الذاتى المعرفى – دمج الفكر) والتي تنشطها المثيرات الوسواسية سوف يؤدي إلى تحسين القلق المصحوب بنقص في الدافع نحو التحييد ، أى القيام بالطقوس القهرية استجابة لإلحاح الأفكار الوسواسية . ويتطلب العلاج القائم على هذا النموذج تعديل معتقدات دمج الفكر ، ويتضمن التعرض المختصر وتجارب منع الاستجابة ، وذلك لتطبيع الآباء اجتماعياً وتعديل المعتقدات ما وراء المعرفية المضطربة وظيفياً عن الوساوس والأفعال القهرية. وتتكون تلك التجارب السلوكية من تعرض مختصر( مدته 5 دقائق) للمثيرات الوسواسية المصممة من أجل اختبار صدق المعتقدات ما وراء المعرفية ، إذ يعمل منع الاستجابة كمناورة لعدم الإثبات تساعد الفرد على عزو عدم حدوث الكارثة المتخيلة إلى خطأ المعتقد ما وراء المعرفى بدلاً من عزوها إلى أداء أحد الطقوس ، وهذا يختلف بصورة واضحة عن جلسات التعرض التى تبلغ مدتها 90 دقيقة كما تنفذ فى التعرض ومنع الاستجابة التقليدى لأنه يقدم فى نطاق إطار عمل واضح وصريح ينقل المرضى إلى المعالجة ما وراء المعرفية لصدق المعتقدات الخاصة بالأفكار الوسواسية الاقتحامية . (Fisher & Wells, 2005)
إن المدخل ما وراء المعرفى Metacognitive approach لعلاج اضطراب الوسواس القهرى ، رغم كونه أحد الأنماط الأساسية فقط يقترح أن العلاج يجب أن يشتمل على تركيز دال على تعديل المعتقدات ما وراء المعرفية الكامنة ، والمعايير الداخلية سيئة التوافق والتى تستخدم لتنظيم السلوك. ويمكن أن يكون هناك نطاق من المعتقدات ما وراء المعرفية تشتمل على مجالات من الدمج بين الفكر والفعل ، الفكر والحدث ، والفكر والموضوع . (Wells, 2000,185)
ومن هذا المنطلق فقد تبنى الباحث نموذج ما وراء المعرفة لاضطراب الوسواس القهرى لـ Wells و Matthews ، وفى ضوئه قام ببناء برنامج علاجى يعتمد على مجموعة من الاستراتيجيات ما وراء المعرفية العلاجية ، كما استعان الباحث ببعض الأدوات التى تم من خلالها قياس المعتقدات ما وراء المعرفية مثل مقياس دمج الفكر ، مقياس المعتقدات الوسواسية، مقياس ما وراء المعرفة، مقياس التحكم فى الفكر.
ثانياً : مشكلة الدراسة :
تبلورت مشكلة الدراسة لدى الباحث وزاد إحساسه بها وبآثارها الجانبية على مرضى اضطراب الوسواس القهرى من خلال الدراسة قبل الاستطلاعية التى صمم من خلالها مقياس اضطراب الوسواس القهرى ، وكذلك من خلال إطلاعه على الكتابات والأدبيات التى تناولت هذا الاضطراب ، ومن خلال نتائج الدراسات الارتباطية التى بينت مدى المعاناة التى يعانيها مريض اضطراب الوسواس القهرى مثل القلق ، الاكتئاب ، الانطواء ، تدنى مستوى الأداء الأكاديمى والمهنى بسبب تسلط بعض الأفكار الاقتحامية والمتطفلة على ذهنه بصورة متكررة ، مما يؤدى إلى تشتيت انتباهه وشعوره بالقلق والضيق ، بل ويضيع الكثير من وقته وجهده فى محاولات فاشلة لمقاومة مثل هذه الأفكار والتخلص منها. وبعد ما يصاب الفرد بالإعياء والتعب ، يستسلم ولا يجد ضالته التى قد تجعله يشعر بالراحة المؤقتة إلا فى الانهماك فى مزاولة بعض الطقوس السلوكية أو العقلية حتى يشعر بالأمان وتخمد أو تهدأ الأفكار ، ولكن لسوء الحظ فإن الأفكار الاقتحامية تعاود نشاطها مرة أخرى ويظل هذا المريض يعيش فى حلقة مفرغة تأخذه من معاناة إلى أخرى.
وعلى الرغم من تباين معدلات انتشار اضطراب الوسواس القهرى ، فقد تم تقدير أن شخصاً واحداً من بين كل مائتى من البالغين يعانى من هذا الاضطراب ، وحوالى 3 أو 4 طلاب فى كل مدرسة ابتدائية متوسطة الحجم ، أو حوالى 20 فى المدرسة الثانوية الحضرية. ومن الممكن أن تكون معدلات الانتشار أكثر ارتفاعاً من ذلك ، لأن هذا الاضطراب غالباً لا يكون متعارف عليه فى الطفولة ، أو يساء تشخيصه . (Adams & Burke, 1999)
إن الراشدين صغار السن الذين تتراوح أعمارهم ما بين 28-24 عاماً معرضون بصورة عالية جداً لخطر الإصابة باضطراب الوسواس القهرى. وتصاب نسبة 65% بهذا الاضطراب قبل عمر الخامسة والعشرين ، بينما تذكر نسبة أقل من 5% من المرضى بداية أولية استهلالية لهذا الاضطراب بعد 40 عاماً من العمر.
بالإضافة إلى ذلك يذكر عدد كبير من الراشدين بداية أن الاضطراب يبدأ لديهم فى مرحلة الطفولة أو المراهقة ، وسوف يستمر الأطفال والمراهقون الذين يعانون من اضطراب الوسواس القهرى الحاد فى المرور بالأعراض لعدة سنوات. (Clark, 2004,p.9)
وقد يعانى الأسوياء والمرضى من الوساوس ، فيمكن النظر للوسواس على أنه شئ طبيعى عندما لا يتدخل بطريقة جوهرية ويؤثر على أداء الوظائف العقلية للفرد. معنى هذا أنه لا يدوم طويلاً ، وأنه لا يحوز إلا جزئياً فقط على التفكير السليم ، وأن تأثيره ربما يمكن الإقلال منه أو إبطاله بعد طول وقت متفاوت بالتركيز على الاهتمام بموضوعات أخرى. أما الوساوس المرضية فهى تلك التى تتحكم أساساً فى عالم الشعور ، فهى تشغل الفرد على الدوام قليلاً أو كثيراً ، مجبرة إياه على الفعل بطريقة من شأنها أن تقلل من مفعولها قدر الإمكان. (كمال دسوقى، 1988 ، 971)
ورغم أن المريض غالباً ما يعتبر حالات الوسوسة مرضية وتتدخل فى شئونه بشكل غير مقبول فإنه لا يستطيع التغلب عليها. فمثلاً ، فى حالة الخوف الأساسى من الإصابة بمرض ، عندما يغسل المريض يديه باستمرار حتى ” تذوب ” بالمعنى الحرفى ، يدرك أن مخاوفه غير منطقية وأنه من السخف أن يفعل ذلك أو أشياء أخرى مماثلة ولكنه يستمر فى القيام بها ليخفف من التوتر العقلى الداخلى الكامن وراء حالات وسوسته. (بتروفسكى وياروشفسكى ، 1996 ، 203)
ولا يخفى مدى تأثير هذا المرض على تبديد طاقة المريض فى أفعال متكررة لا طائل من ورائها ، وفى محاولات من جانبه لمقاومة هذه الأفعال وعدم إتيانها ، الأمر الذى يسبب إنهاكاً شديداً للمريض ، وضيقاً بالغاً له. (فرج عبد القادر طه ، 1989 ، 234). فلا غرابة إذن أن تظهر على مريض الوسواس أعراض الإرهاق والتعب لكثرة ما يبذله من طاقة فى الوسواس أو فى مقاومته. (فرج عبد القادر طه ، 1989 ، 845).
وبالنسبة للجزء الرئيسى من مرضى اضطراب الوسواس القهرى فإن البداية تكون تدريجية رغم ملاحظة بدايات حادة فى بعض الحالات. ويكون مسار الاضطراب لدى غالبية الأفراد حاداً أو مزمناً مع وجود بعض الأعراض التى قد ترتبط بالضغط النفسى ، وحوالى 15% يظهرون تراجعاً متصلاً فى الأداء الوظيفى والاجتماعى والأداء المهنى ، وحوالى 5% يكون مسار الاضطراب لديهم عارضاً. (APA, DSM-IV, TR, 2000, 460). كما يكون لدى مرضى هذا الاضطراب معدلاً عالياً من العنوسة ، والزواج فى سن متأخر ، وامتلاك معدل منخفض من الخصوبة. وتعد معدلات الطلاق والخلل الوظيفى الزواجى ، وعدم الإشباع الجنسى شائعة وعامة فى اضطراب الوسواس القهرى. ولاضطراب الوسواس القهرى أثر سلبى دال على قدرة الفرد على الأداء الاجتماعى والمهنى ، خاصة فى الحالات الأكثر خطورة. وفى الوقت الحالى يجب أن يكون الكلينيكى واعياً بأن العديد من المرضى الذين يعانون من اضطراب الوسواس القهرى الشديد غالباً ما يكونون غير قادرين على تنفيذ أعمالهم العادية أو الأنشطة الاجتماعية بعد بداية المرض بفترة قصيرة . (Clark,2004, p.9).
فالمشكلة فى اضطراب الوسواس القهرى لا تتوقف على محتوى الأفكار الاقتحامية ، ولكنها ترتبط بصورة أساسية بكيفية تعامل الأفراد معها. فالأفكار الوسواسية الاقتحامية تعمل على تنشيط المعتقدات الخاصة بأهمية هذه الأفكار. ولا تتكون هذه المعتقدات فقط من معلومات عن الأفكار الاقتحامية المتكررة ، ولكن تتكون أيضاً من المعرفة بالاستجابات السلوكية. وقد حظيت المعتقدات الخاصة بالسلوك فى اضطراب الوسواس القهرى باهتمام محدود فى التفسيرات النظرية. ومن الممكن أن يؤدى المزيد من الاهتمام بهذه المعتقدات إلى تيسير التصور المفاهيمى للمشكلات الوسواسية القهرية. (Wells, 1997,p.239)
وتؤثر المعتقدات المتعلقة بما وراء المعرفة على طبيعة تقييمات الوساوس المتسلطة. وأيضاً تؤثر على التقييمات الخاصة بنتائجها مسايرة لمضمون المعتقدات التى يتمسك بها الفرد نحو الطقوس القهرية والاستجابات السلوكية. ويوجد نمطان من المعتقدات حول الطقوس القهرية، فإما أن تكون الطقوس إيجابية (مثال : إننى إن اغتسل أو استحم دون التفكير فى أفكار سيئة ، فإن الأشياء السيئة لن تحدث) ، أو تكون المعتقدات سلبية (مثال: يمكن أن تحدث طقوسى العقلية ضرراً بجسدى). وتؤثر المعتقدات المتعلقة بالأخطار والمزايا الناتجة عن ممارسة الطقوس أو الاستجابات المتاحة على انتقاء وتنفيذ السلوكيات ، وتؤثر على حدة ردود الأفعال الانفعالية على المدى القصير. ويؤدى الأفراد الطقوس القهرية أو سلوكيات التأكد إلى أن يتم إشباع إحدى الحالات المستهدفة داخلياً (والتى قد تكون الشعور بالراحة والأمان). ولذلك فإن المعتقدات أو المعرفة التى توجه هذه السلوكيات تحتوى على تمثيل لهدف وتتضمن مراقبة عمليات التفكير والتحكم فيها. ويمكن أن يكون القلق وردود الفعل الوجدانية السلبية الناتجة عن التقييم للأفكار الاقتحامية عرضة للتفسير السلبى. فعلى سبيل المثال فإن أعراض القلق قد يساء تفسيرها على أنها علامة على فقدان السيطرة أو علامة على وجود أخطار أخرى مصاحبة للأفكار الاقتحامية. وفى بعض الحالات ، يساء تفسير أعراض القلق على أنها دليلاً يؤيد صدق الوساوس السلبية المتطفلة. ويمكن أن تعمل الحالة الانفعالية كباعث محرك فى حد ذاتها، مثل بعض الأفراد الذين يعتقدون أنهم سيتأثرون كلية بالمشاعر السلبية ، أو أن هذه المشاعر لن تتوقف ما لم تتم تأدية أحد الطقوس القهرية بصورة متكررة استجابة لإلحاح فكرة معينة.
ويسهم الاختلاف فى المفاهيم النظرية وعدم توافر إطار عمل متفق عليه بصفة عامة، وقصور البحوث حول الأبعاد المعرفية فى عدم تطور نماذج معرفية خاصة باضطراب الوسواس القهرى ، وفى استمرار مرضى هذا الاضطراب كى يمثلوا تحدياً لأخصائى العلاج النفسى. (Wells, 1997, p. 237). ولقد ترتب على المداخل المعرفية السلوكية المفسرة لنمو وتطور الاضطرابات النفسية نشأة بعض أهم التدخلات العلاجية الأكثر فاعلية حتى الآن. ومع ذلك ، فإنه لا يزال هناك الكثير الذى يتعين تحقيقه للتوصل إلى فهم وعلاج الاضطراب النفسى. وعلاوة على ذلك فقد أكد بعض المحدثين على وجود جوانب قصور فى النظرية المعرفية العامة مثل نظرية المخططات ، واقترحوا إعداد إطارات عمل تم مراجعتها بهدف التصور المفاهيمى للمعرفة فى إطار الاضطراب الوظيفى الانفعالى. (Wells & Purdon, 1999)
فهناك مكونات معرفية تلعب أدواراً مهمة في استمرار اضطراب الوسواس القهرى مثل (التحمل الضعيف للغموض وعدم التأكد ، الكمال ، التقدير الزائد للتهديد) ، ولكنها لم تخاطب فى نموذج المسئولية المتضخمة لـ Salkovskis (1985 ، 1989). وهناك حاجة إلى دراسة أبعد مدى لفهم الأهمية النسبية لهذه المعارف والقيام فى النهاية بدمجها فى نموذج شامل لاضطراب الوسواس القهرى. (Wilson & Chambless, 1999). وبغض النظر عن المعتقدات الخاصة بالأفكار والمشاعر، فإن المعتقدات الأدائية الخاصة ببدء مزاولة الطقوس وتحييد الاستجابات تعد أيضاً مرتبطة بصياغة ما وراء المعرفة. وإن دور هذا التصنيف للمعتقدات قد تم تجاهله بواسطة المداخل المعرفية السابقة. وعلى أية حال فإن تقييمات النجاح أو الفشل أو معنى الأحداث المرتبطة بالطقوس تعد ذات تأثير مهم على الضغط النفسى. (Wells, 2000, p. 184)
ورغم هذا فقد اقتصرت الدراسات العلاجية على استخدام أساليب سلوكية للتدخل فى هذا الاضطراب ، وقد اتسمت هذه الأساليب بفاعليتها فى مساعدة المرضى على التغلب على صعوباتهم ، ومن أكثر الأساليب استخداماً فى هذا المجال هو أسلوب التعرض ومنع الاستجابة والذى ساعد إلى جانب العلاج الدوائى فى تحسن العديد من المرضى (سعاد بشر ، صفوت فرج، 2002). وقد كشفت نتائج بعض الدراسات عن جوانب قصور مهمة فى العلاج السلوكى.
وعلى الرغم من أن بعض نتائج هذه الدراسات ذكرت درجات نجاح تصل إلى 85% ، إلا أن تلك الأرقام لا تعكس النتيجة النموذجية لعلاج المرضى الخارجيين فى الممارسة العلاجية المنتظمة ، فلقد تم التوصل إلى هذه النتائج بعد تطبيق فنية التعرض ومنع الاستجابة على أفراد من عينات مختارة ،
باستخدام فريق ذى تدريب عال على مرضى داخليين، فإن 25% من المرضى الذين تم تصنيفهم كملائمين للعلاج يرفضون العلاج السلوكى عندما يشرح لهم ، ويتخلف 12% غيرهم عندما يبدأ العلاج بالتعرض، وهناك دليل على حدوث بعض الانتكاسات. علاوة على ذلك فإن العلاج السلوكى يرتبط بمستويات مرتفعة من القلق ، أحياناً تجعل العلاج أمراً صعباً ويستغرق وقتاً طويلاً. وبالنسبة لبعض المرضى يصبح القلق أمراً صعباً غير محتمل لدرجة أنه يؤدى إلى رفض الاستمرار فى الجلسات ، أو الانسحاب من العلاج. (جان سكوت وآخرون ، 2002 ، 96) وبالنسبة للعلاج الدوائى فقد ورد فى الدليل التشخيصى أن هناك بعض الأدلة على أن بعض العقاقير الدوائية التى تعطى لذوى اضطراب الوسواس القهرى بصورة زائدة مثل عقار السيروتينين تتسبب فى زيادة الأعراض بشكل حاد لديهم. وقد يظهر الأفراد الذين يعانون من هذا الاضطراب نشاطاً آلياً واستقلالياً زائداً عند مواجهتهم بمواقف تثير وساوسهم ، ويقل رد الفعل الفسيولوجى عقب تنفيذ الطقوس القهرية. (APA, DSM-IV-TR, 2000, 459)
ويرى الباحث أنه من خلال الوقوف على الكثير من الدراسات التى تناولت هذا الاضطراب لوحظ أن الدراسات التى اعتمدت على العلاج المعرفى قد ركزت على محتوى هذه الأفكار، دون أن تضع فى الاعتبار المعتقدات ما وراء المعرفية التى تعد سبباً فى استمرار احتفاظ مرضى اضطراب الوسواس القهرى بأعراضهم رغم تعرضهم للعلاج وهذه المعتقدات (مثل: المسئولية المتضخمة ، التقدير الزائد للخطر ، الكمالية والتيقن ، المعتقدات الإيجابية حول القلق، عدم القدرة على التحكم والخطر ، الحاجة للتحكم فى الأفكار) ومعتقدات دمج الفكر (الدمج بين الفكر والفعل ، الفكر والحدث ، الفكر والموضوع) ، وكذلك طريقة تعاملهم مع هذه الأفكار ، أى استراتيجيات التحكم فيها سيئة التكيف التى يستخدمونها مع الأفكار الوسواسية الملحة والمتكررة (مثل القلق ، والعقاب ، والتجاهل).
المصدر
كتاب: اضطراب الوسواس القهرى وماوراء المعرفة: استراتيجيات ماوراء معرفية وبرامج علاجية (تحت الطبع)
تأليف د.عبدالله عبدالظاهر الخولى
مدرس الصحة النفسية
كلية التربية جامعة أسيوط
جمهورية مصر العربية
التعليقات