المنطلقات الفلسفية للنظرية المعرفية
ريما الهويش
باقتفاء الجذور الفلسفية للنظرية المعرفية نجد أن بذورها تعود إلى الفلسفة الإغريقية القديمة ، فالحوار السقراطي _ والذي يمكن تسميته بفن توليد الحقيقة من المرُيد _ يقوم على أن يعبر سقراط عن جهله التام بالموضوع المطروح للنقاش مع محاوره وأنه يرغب في تعلم المعرفة منه ، ويشرع في طرح أسئلة تضع يقينيات محاوره موضع التساؤل ، وعند نهاية الحوار يكتشف المحاور الغياب الفعلي للمعرفة التي ادّعى امتلاكها في البداية ، فلقد أراد سقراط أن يعيد للحقيقة موضوعيتها ويحث الفرد على الابتعاد عن انطباعاته الذاتية وإحساساته الخاصة والتي في الغالب تكون خاطئة أو مجانبة للصواب
كما اعتبر زينو Zenu الفيلسوف الإغريقي الذي أوجد المدرسة الرواقية Stoic في بدايات القرن الثالث قبل الميلاد أن مفهوم الانسان أو مفاهيمه الخاطئة عن الأحداث هي مفتاح تقلباته الانفعالية وليس الحدث نفسه
وفي القرن الثاني قبل الميلاد كتب مارك أوريل Marc-aurele قائلا :”إذا كانت بعض هموم الحياة تجعلك حزينا ، فإن الأمر لا يرجع إلى تلك الهموم في حد ذاتها ، وإنما ما يقلقك هو طريقة حكمك عليها،لذا فإن الأمر متروك لك وحدك من أجل تطهير نفسك من هذه الأحكام ”
وقد تبنى المفكرون المسلمون فلسفة خاصة انبثقت من العقيدة الإسلامية في نظرتهم للدور الذي يلعبه التفكير في توجيه سلوك الإنسان وفي سعادته وشقائه فقد قال ابن القيم : “النفس أشبه بالرحى الدائرة ، وأن ما يلقى إليها تطحنه وتخرج مادته وما يلقي إليها هو الخواطر التي إن صلحت كان الناتج عملا صالحا ، وإن خبثت كان الناتج عملا خبيثا” ،كما أوضح ابن القيم قدرة الأفكار -إذا لم يتم تغييرها- على تحويل سلوك الفرد إلى عادات فقد قال : “إن الخاطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر فيأخذها الفكر فيؤديها إلى التذكر فيأخذها الذكر فيؤديها إلى الإرادة فتأخذها الإرادة فتؤديها إلى الجوارح والعمل فتستحكم فتصير عادة،فردها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها”.
ويهدف علم النفس المعرفي في العصر الحديث إلى الكشف عن كيفية استقبال الفرد للمعلومات وتخزينها في ذاكرته و استعمالها للتكيف مع واقع حياته اليومي، ولذلك ركز علم النفس المعرفي على دراسة كيفية معالجة المعلومات حول العالم المحيط بنا وإدماجها في أحداث ذهنية مثل التفكير والانتباه والذاكرة لكي يتحقق التعلم سواء كان سويًا أو مشوهًا ،فالمعلومات المخزنة في الذاكرة ، قد يشوبها التشوه أو التحريف نتيجة لإشراطات غير سوية بين الذات والأحداث أو المواقف التي تحدث في حياة الفرد اليومية ، ونتيجة لذلك فإن استحضار الفرد لتلك المعارف المخزنة سيكون مشوّهًا خصوصًا إذا وجد في سياق أو موقف مشابه لسياق تخزين المعلومات ، وبناء على هذا الاسترجاع المشوه سيقرأ الفرد الواقع قراءة ذاتية مشوهة قد تؤثر على مدى توافقه النفسي والاجتماعي ، وقد تؤثر على علاقته مع الآخرين .
وقد تنبه العلماء الروس منذ سنوات عديدة لأهمية الحوار الداخلي وتبين لهم أنه مع ازدياد استخدام اللغة تمر عملية تنظيم الفرد لسلوكه بثلاث مراحل :
1- المرحلة الأولى يكون كلام الغير هو المتحكم والموجه لسلوك الطفل الصغير .
2- المرحلة الثانية يقوم الطفل بتوجيه سلوكه بنفسه بصوت مسموع ؛ يأمر نفسه بأن يفعل كذا أو يتوقف عن ممارسة كذا ، والتوجيه المسموع للسلوك من قبل الشخص يمارس أحيانا من قبل الكبار .
3- مع التكرار يصل الفرد إلى المرحلة الثالثة وهي التي يحدث التوجيه فيها بصورة تلقائية وغير مسموعة ، وفي هذه المرحلة يتحدث الشخص مع نفسه بصورة دائمة وصامتة .
وقد أشار المحارب(2000: 5)إلى أن Flanagan أوضح أن التفكير ينظم السلوك ونتائج السلوك تصبح مادة أو غذاء للتفكير أي أن هناك تفاعل مستمر بين التفكير والسلوك ، ولذلك انصب اهتمام علم النفس المعرفي على دراسة أساليب التفكير التي يوظفها العلاج المعرفي(باعتباره أحد مجالات تطور علم النفس المعرفي )لتشخيص الصعوبات والاضطرابات النفسية التي يعاني منها الأفراد والعمل على تغييرها ، لأن إدراك الفرد للعالم وتفسيره للواقع هو الذي يحدد أنماطه السلوكية والتواصلية ، وقد يكون إدراك الفرد مبني على معطيات غير واقعية بل قد تبنى على أفكار لاعقلانية تؤدي إلى قراءة مشوهة للواقع وبالتالي تؤدي إلى صعوبات في توافق الفرد مع ذاته ومحيطه ، نتيجة لإسقاطاته الداخلية عليها .
فالنظرية المعرفية تعتمد على الكيفية التي تتم بها معالجة المعلومات ، وتفترض هذه النظرية أن وجود الاضطرابات لدى الفرد مرتبط بوجود تحيز وأخطاء في معالجة المعلومات لديه كما تفترض وجود أبنية معرفية (مخطوطات) كامنة عاجزة عن التكيف تسيطر على الفرد من خلال ماينتج عنها من أفكار وأخيلة تلقائية تصاحب الاضطراب وتساعد على استمراره ، وفي محاولة للتعرف على الكيفية التي ينظم بها الإنسان المعارف التي يكتسبها في حياته أو ما يسمى بالتمثيل الداخلي للمعارف نشأت فكرة المخطوطة المعرفية.
فالمخطوطة المعرفية (Schema cognitive) :هي الأداة التي يفهم الفرد من خلالها مايمر به من خبرات ويقرر الكيفية التي سوف يتعامل بها مع هذه الخبرات ، وهكذا فإن الفرد لايرى الواقع كما هو لأن إدراكه للواقع مبني على نوع المخطوطات التي تكونت لديه ، الأمر الذي يجعله يكوِّن نظرة خاصة به هو عن الواقع تختلف عن نظرة غيره من الناس.
والمخطوطة قد تكون متكيفة وقد تكون غير متكيفة،فيكون صاحبها عرضة للاضطرابات النفسية ،كالاكتئاب،كما أن المخطوطة تعالج المعلومات بشكل انتقائي ينسجم مع محتواها ومع أساليب التفكير غير الفعالة التي تحكمها.
المراجع :
1- إبراهيم ، عبد الستار (2008): عين العقل دليل المعالج المعرفي لتنمية التفكير العقلاني الإيجابي، القاهرة ، مكتبة الأنجلو.
2- علوي ، اسماعيل. زغبوش ، بن عيسى (2009) :العلاج النفسي المعرفي ، عمان،عالم الكتب الحديثة .
3- المحارب ، ناصر إبراهيم (2000) : العلاج الاستعرافي السلوكي، الرياض ، مطابع الحميضي.
المراجع الأجنبية :
1- Atkinson,R.Smith,H&Ernest,R(1987):Introduction To psychology .New York, court brace Jovanovich publishers,(8th ed).
2- Beck, A.T & Judith,E(1995): cognitive therapy basics and beyond.new York. Guilford press
3- Ohert, T. Sjodin, I. And Thorell, L. (1999): Cognitive Distortion in Panic Disorder and Major Depression : Specificity for Depressed Mood. Nord, J. Psychiatry , 53, PP. 459-464.
التعليقات