في كل زيارة للمدينة المنورة لابد من أن أزور جبل أحد ، ليس ذلك بالطبع لأنه مزار أو أن لزيارته أجر وفضيلة ‘ إنما لأني أشعر بمحبة لذلك الجبل الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم 🙁 إن أحد جبل يحبنا ونحبه).
ذلك الجبل الذي شهد سفحه أحداث معركة دامية وغزوة من أولى الغزوات بين الإيمان والكفر ، بين الحق والباطل.
أحداث تلك الغزوة قصها الله في سورة آل عمران ، ومن أحداثها في السورة وبنفس ترتيبها سأقف معها بعض الوقفات المعرفية.
هل هناك خسارة محضة؟!
سؤال مهم: هل هناك خسارة محضة ؟ أو مصيبة كاملة؟
تلك الغزوة التي مما درسنا عنها في التاريخ منذ الصفوف الابتدائية أن المسلمين انهزموا فيها !! واكتشفت فيما بعد إضافة للدروس والعبر والفوائد من وفي تلك الغزوة، ومع أن المسلمين لم ينتصروا فيها أننا لا نستطيع أن نقول أنهم هُزموا فيها وذلك لأسباب:
1- أن المسلمين لم يُأسر منهم أحد
2- أن المشركين لم يغنموا من المسلمين غنيمة
3- أن جيش المشركين لم يقم في معسكره ثلاثة أيام بعد انتهاء الغزوة كما كان من عادة الغزاة المنتصرين في ذلك الزمن ، بل عادوا من فورهم إلى مكة
في بعض محن الحياة التي تصيبنا وكوارثه التي تنزل ببعضنا يحزن القلب وقد ييأس ويصيبه القنوط فلا يعد يستطيع رؤية إلا الوجه المظلم للأمور مع أن لها وجه مضيء كما الوجه المظلم
كما القمر موجود على الدوام في السماء الا أننا أحيانا نرى أجزاء منه ونراه بدرا ً كاملا في منتصف الشهر ولا نراه أبدا في آخره، وإنما يعتمد ذلك على موقعه بين الشمس والأرض ، ذلك النور الذي يُظهر القمر هو تلك الأفكار المضيئة التي توازن تفكيرنا، وتجعلنا نعلم أن كما للأشياء وجه مظلم (المصائب التي تصيبنا) لها وجه مشرق أيضا علمنا به أو جهلنا..
وفي حكاية الله لهذ الغزوة تتجلى الكثير من الحكم والفوائد والأجر الذي حصل عليه المسلمون في هذه الغزوة.
عندما يقع الانسان في مشكلة، وعندما يكون في داخلها، في المكان الذي وقعت فيه ، أو مع نفس الأشخاص ،فإنه يراها كبيرة ، وضخمة ، لذلك يحتاج أن يبتعد قليلا.. ليستطيع ترتيب أفكاره ورؤية الأحداث من زوايا عدة، من جوانبها السيئة والجيدة أيضا.
أحيانا حكاية الأحداث على شخص ما أو كتابتها كمذكرات أو في سجلات الأفكار ،أو سماعها – كما في الآيات الكريمة- هو خروج من تلك الدائرة ، وهو ما يساعد الانسان على التأمل والتفكر والتفكير بشكل أفضل وأوضح..
مقابل كل بلاء ومصيبة نعم لاتعد ولا تحصى..
في بداية حكاية الله للغزوة ذكر انتصارهم في بدر (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون )
من الحكمة في الجمع بين القصتين أن الله يحب من عباده إذا أصابهم ما يكرهون أن يتذكروا ما يحبون فيخفف عنهم وقع البلاء، ويشكروا الله على نعمه العظيمة التي إذا قوبلت بما أصابهم من المكروه – الذي هو في الحقيقة خير لهم- كان المكروه بالنسبة للمحبوب نزرا يسيرا..
كما قال عروة بن الزبير عندما بُترت رجله لمرض أصابه ومات ابنه في ذات اليوم: ( اللهم إن كنت أخذت طرفًا , لقد أبقيت أطرافًا , وإن كنت أخذت ولدًا فقد تركت أولادًا , ولك الحمد على ما أعطيت وما أخذت ).
فمما يخفف وقع البلايا أن يتذكر الانسان الكم الهائل من النعم الذي يرفل به، كما حُكي عن أحد السلف أنه كان أقرع الرأس ، أبرص البدن ، أعمى العينين ، مشلول القدمين واليدين ، وكان يقول: ” الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به كثيراً ممن خلق، وفضلني تفضيلاً “. فمر به رجل فقال له : مما عافاك؟ أعمى وأبرص وأقرع ومشلول فمما عافاك؟ فقال: ويحك يا رجل ؛ جعل لي لساناً ذاكراً، وقلباً شاكراً، وبدناً على البلاء صابراً ” .
الفعل وليس النتيجة هو ما سنحاسب عليه:
)ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون!ولله ما في السموات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم(
لما جرى يوم أحد ما جرى، وجرى على النبي r مصائب ـ رفع الله بها درجته- فشج رأسه وكسرت رباعيته ، قال:( كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم )وجعل يدعوا على رؤساء المشركين مثل أبي سفيان بن حرب ، وصفوان بن أمية، وغيرهم.. أنزل الله على رسوله نهيًا له عن الدعاء عليهم باللعنة والطرد عن رحمة الله .
(ليس لك من الأمر شيء) إنما عليك البلاغ وإرشاد الخلق والحرص على مصالحهم ، وإنما الأمر لله تعالى هو الذي يدبر الأمر ويهدي من يشاء ويضل من يشاء ..
ذلك فيه تسلية للرسول r ولنا نحن من بعده ، عندما نحزن لفشلنا في مشروع ما ، أو عندما يقلق أب على تربية وصلاح أبنائه ، أو مدرس في ايصال رسالته، أو طبيب في معالجة مرضاه – أو غيرهم- لنعلم أن الله سيكتب الأجر على العمل الذي عملناه ، أما النتائج فهي بيده وحده.
وهنا أيضًا درس مهم في حسن الظن:
عند رؤيتنا لنتائج غير جيدة قد نسيء الظن بصاحبها ، عندما نرى شخص فاسد الأغلب أننا نسيء الظن بوالديه مع العلم ، أنهما قد يكون بذلا جهودًا جبارة في هدايته ، وننسى أن عمّ الرسول مات كافرا، وكان ابن نوح عليه السلام أيضا كافرًا وزوجة لوط كانت تعين قومها على الفاحشة ،ويوم القيامة يَمُرُّ النَّبِىُّ مَعَهُ الرَّجُلُ وَالنَّبِىُّ مَعَهُ الرَّجُلاَنِ ، وَالنَّبِىُّ مَعَهُ الرَّهْطُ ، وَالنَّبِىُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ ، ليس ذلك نقصًا في جهود أحدهم ، وإنما هي هداية الله لمن يشاء..
وفي المقابل أيضا قد يبدأ الانسان بالتشكيك في عمله وهو ويصاب بالحزن والاحباط ويعتقد أنه فاشل .
عندما تبذل الأسباب وتعمل ، فلا تلتفت للنتائج، ولم تكن النتيجة في يوم ما إلا بتوفيق من الله وحده..
كيف نتعامل مع الأخطاء؟!
سواء كانت أخطائنا أو أخطاء الغير! بعض الناس إذا ارتكب خطيئة أو معصية يحزن ذلك الحزن المحبط والقنوط واليأس ، وإذا قابل أو سمع عن أحد مثل ذلك وصل من المبالغة حتى ظن بنفسه أو ظن بغيره أنه خالدٌ في النار ، وفي سياق هذه الغزوة ذكر الله من صفات عباده المتقين، أصحاب جنة عرضها السموات والأرض ) والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم..(.
)ولا تهنوا ولا تحزنوا(
)ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين! ان يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس…( يقول الله تعالى مشجعا لعباده المؤمنين ومقويًا لعزائمهم ومنهضاً لهممهم )ولا تهنوا ولا تحزنوا( فإن الوهن في الأبدان والحزن في القلوب زيادة مصيبة عليكم ، ثم سلّاهم )إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله( أي أنكم تساويتم في القرح ولكنكم ترجون من الله مالا يرجون
أيضا من تطبيقات هذه القاعدة : عندما نجد مهموم أو محزون أو صاحب خسارة ،عندما يرسب طالب ، أو يقع ابن أو يفشل صاحب مشروع، وحتى ان كان يتحمل جزء من الخطأ، فليس من الحكمة إمطاره بوابل من اللوم والتقريع ، واسماعه عبارات من قبيل (تستاهل، كم حذرتك…الخ) بل يُشَدّ من أزره ويشجع، ويقال إن فشلت الآن فقد نجحت ، وإن سقطتَ مرة فقد وقفت مرات، وإن رسبت في مادة فقد نجحت في مواد – وهذه إحدى طرق التفكير المفيد وهو النظر للإيجابيات كما السلبيات-.
)أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين( هذا استفهام انكاري، أي لا تظنوا ولا يخطر ببالكم أن تدخلوا الجنة دون مشقة واحتمال للمكاره في سبيل الله وابتغاء مرضاته
وذلك في كل أمور الإنسان الدنيوية منها والأخروية، وكلما عظم المطلوب عظمت وسيلته والعمل الموصل اليه فلا يوصل للراحة الا بترك الراحة ولا يدرك النعيم إلا بترك النعيم، وعندما تكون هذه القاعدة ضمن البنية المعرفية للإنسان هانت عليه المشاق ، فلن يحصل على مال وثروة بدون سعي ، ولن يحصل على أبناء صالحين بلا تربية ، ولن ينال شهادة بلا تعب ونصب ومذاكرة.. وهكذا في كل أمور الحياة. وهذه مفيدة لمن يظن الحياة غير عادلة أو يقول : لماذا أنا!
الحياة لا تتوقف على شيء أو شخص كائنا من كان:
)وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين( في الغزوة وخلال ازمة المسلمين قَتَل عبدالله بن قميئة الصحابي مصعب بن عمير فظن أنه قتل الرسول -وكان t شديد الشبه بالرسولr– ونشر اشاعة أن محمد قتل، فتراجع الصحابة رضوان الله عليهم وأصابهم الإحباط ، ومر أنس بن النضر بقوم من المسلمين ألقوا أيديهم وانكسرت نفوسهم فقال: ما تنتظرون: قالوا: “قتل رسول الله صلَّى الله عليه وسلم” فقال: “وما تصنعون بالحياة بعده؟. قوموا فموتوا على ما مات عليه”.. ثم استقبل المشركين فما زال يقاتلهم حتى قتل. * المرجع *
وعند تخبط المسلمين عند وفاة النبي r خطب بهم أبو بكر فقال: أيها الناس ، إنه من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت . قال : ثم تلا هذه الآية : )وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين( . فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ ؛ وأخذها الناس عن أبي بكر ، فإنما هي في أفواههم ؛ فقال أبو هريرة : قال عمر : والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها ، فعقرت حتى وقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي ، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات.
الدرس المستفاد من هذه الآية: هنا إرشاد من الله عز وجل لعباده بأن يكونوا بحال لا يزعزعهم عن إيمانهم ،أو عن بعض لوازمه فقد شيء ولو عظم.
أيضاً عندما يشتد القلق بالناس لأي أمر من أمور الحياة ، أو خوف من مصيبة ما قد تقع عليهم أو خسارة لا يستطيعون التعامل معها، من هنا نتعلم أن فقد شيء أو خسارة انسان أو كارثة حلت ، ذلك لا يعني أنها النهاية وأن الحياة ستتوقف ، وأن الفرصة لن تعود…
)فأثابكم غماً بغم(
قال تعالى:)لقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين! إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون(
في بداية الغزوة صدق الله المسلمين وعده وانتصروا، ولكن عندما فشلوا واختلفوا وعصوا الرسول بدأت هزيمتهم وبدأت مصائبهم تتتالى من قتل وتجريح .. ثم وصلهم خبر مقتل النبي فكانت القاصمة..
)فأثابكم غماً بغم( أي غم يتبعه غم :غم بفوات النصر ، وفوات الغنيمة، وغم بانهزامكم، وغم أنساكم كل غم وهو سماعكم أن محمد r قد قتل، ولكن الله بلطفه وحسن نظره لعباده جعل اجتماع هذه الأمور لعباده المؤمنين خيرا لهم فقال ) لكيلا تحزنوا على ما فاتكم( من النصر ) ولا ما أصابكم( من الهزيمة والقتل والجراح، لأنه عندما تحققتم أن الرسولr لم يقتل هانت عليكم تلك المصائب واغتبطم بوجوده المسلي عن كل مصيبة ومحنة ، فلله في ضمن البلايا والمحن من الاسرار والحكم الكثير..
)فأثابكم غما بغم ( تطبيقها أيضا ما رواه البخاري ومسلم عن ابي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { انظروا إلى من هو أسفل منكم ، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم ، فهو أجدر ان لا تزدروا نعمة الله عليكم..}.
وفي رواية ثانية عن البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {إذا نظر
أحدكم إلى من فَضُلَ عليه من المال فلينظر إلى من هو أسفل منه..} .
سيجد من أخفق في مادة من أخفق في مواد ، ومن مات له ابن قد يسليه أن يرى من مات له أبناء .. وهكذا..
لو تفتح عل الشيطان!!
)يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزّى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير(
حسرة في قلوبهم: لتزداد مصيبتهم، أي أن التشكي والاكثار من (لو) واجترار الماضي هي زيادة مصيبة على المصيبة .
)أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها(
أيضا هذه الآية موضع تسلية للمسلمين حين أصابهم ما أصابهم في أحد من قتل سبعين منهم ، أنهم في بدر قد أصابوا مثليها ،أسروا سبعين وقتلوا سبعين، فليهن الأمر عليكم مع أنكم لا تساوونهم فقتلاكم في الجنة وقتلاهم في النار.
فإن كنت أيها الانسان قد خسرت مرة فلقد ربحت مرات، ولئن مرضت يوما فلقد عوفيت أيام..
انتهت نظرتي ولكن لم تنتهي الوقفات والفوائد لهذه الآيات ولهذه الغزوة، وسنجد في بطون كتب التفسير المزيد
أسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا ويزيدنا علما..
المراجع:
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، تأليف الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي
الرحيق المختوم، تأليف الشيخ صفي الرحمن المباركفوري
التعليقات