د. محمد عقلان

 

تشكل الاضطرابات الانفعالية، والسلوكية، والاجتماعية هماً من هموم البشر، لذلك استأثرت هذه الاضطرابات بجهود كثيير من العلماء، والباحثين، والمؤسسات العلمية، والدول منذ الأزل لتفسيرها، وفهمها، وعلاجها ومازالت مسيرة العلم تخطو بين النجاح والإخفاق، وهذا هو شرط تقدم العلوم، فإذا كان العلم يسير من نجاح إلى نجاح لكانت كثير من أبواب، ومجالات العلم قد أُغلقتْ لأنها بذلك تكون قد وصلت إلى الحقيقة المطلقة التي لا يعلمها إلا الله.

 

 

فماذا قدم علماء وباحثو (العرب والمسلمين) في الوقت الراهن لفهم الاضطرابات الانفعالية والسلوكية؟ احسب أنهم لم يقدموا إلا الشيء اليسير، في الوقت الذي قدم فيه أسلافنا الكثير (…). لكن ما يدعو للأسف أن أسلافنا العلماء لم يجدوا من يقرأهم في مجتمعنا لأسباب موضوعية وذاتية؟. لكنهم وجدوا من يقرأهم من باق الأمم، فترجمت كتبهم، وطورت أفكارهم، وأصبحت نظريات، وتقنيات، تحكم العالم. وإيمانا منا بقول الله تعالى ” وتلك الأيام نداولها بين الناس”. فهم قرءوا علماءنا، ونحن نحاول قراءة علمائهم.

 

ولما كانت اللغة هي ذات، والذات لغة، فاللغة تنجب الحضارة، واللغات جسر للتواصل بين الأنا، والآخر، بين الأفراد، والحضارات، والشعوب، خصوصاً على صعيد الإنجاز العلمي، والمعرفي، والثقافي، والفكري. وهذا التواصل لا يتأتى إلا من خلال اللغة، والترجمة، فالترجمة هي عملية إبداع ثانية لا تقل أهمية في بعض جوانبها عن العملية الإبداعية الأولى.

 

وهذه المقالات التي ستكرس للتعريف بالعلاج المعرفي في جوانب كثيرة منها تعتمد على الترجمة لمفاهيم العلاج النفسي المعرفي، التي انتشرت منذ ست وثلاثون عاما على يد مؤسس العلاج النفسي المعرفي (Aaron T Beck;1921-… ) ومساعدوه في مركز العلاج المعرفي “Center of Cognitive Therapy” بقسم الطب النفسي بكلية الطب، جامعة بنسلفانيا “Pennsylvania”. والذي حقق نجاحا كبيرا في فهم وعلاج الاضطرابات الانفعالية. فهل فكرنا في التحقق، والإفادة من ذلك؟

 

والهدف من هذه المقالات، هي:

1. الوقوف على آخر ما توصل إليه الجهد العلمي الإنساني في مجال العلاج النفسي المعرفي لفهم وتفسير ما يؤرق النفس البشرية، على المستوى الفردي أو المجتمعي.

2. كمحاولة لإلقاء الضوء على ذلك القصور المخيف كما وكيفا في مقررات الطب النفسي، والعلاج النفسي في مناهج الدراسة الجامعية بكليات الطب، وأقسام علم النفس في بعض بل في معظم جامعاتنا العربية. فمفهوم التطبيب في واقعنا ينظر للإنسان على انه بطن تعاني من المغص، أو جهاز تنفسي يعاني من السعال، فعندما يعاني الشخص من أي الم في جسده يأخذ على وجه السرعة للمستشفى، وتجرى له الفحوصات المختلفة (بحسب الإمكانات المتاحة). وهذا شيء طيب، لكن الجانب النفسي لا يلقى أدنى اهتمام. فالإنسان ليس كُلية أو قلب أو جهاز تنفس. الإنسان جسد، وفكر، ومشاعر، ومجتمع. وهذا ما يقوم عليه الطب الحديث بكل فروعه. فقد يكون لحوار الطبيب الهادئ، والمهتم مع مريضه أثرا اكبر أو يوازي اثر العلاج الصيدلاني وخاصة في بعض الحالات المرضية.

3. إنها محاولة لنشر الثقافة العلمية النفسية على المستوى العام في مجتمعنا العربي الإسلامي، فنحن نعرف كيف ننفعل (خاصة على بعضنا بعض) لكننا نتظاهر بأننا نعرف كيف نفكر.

 

في تعريف العلاج النفسي المعرفي:

يعد العلاج المعرفي منهجاً تفسيريا،ًعلاجياً للاضطرابات الانفعالية، يقوم على فكرة ببسطة هي:” أن التصورات “المعتقدات، والأفكار السلبية، تسهم في نشأة الاضطرابات الانفعالية النفسية، بمعنى أن الإنسان يضطرب انفعاليا، ونفسيا، وجسديا، واجتماعيا، ليس بسبب الأشياء، والأحداث الخارجية في حد ذاتها، بل بسبب نظرته، وتفسيره لها تفسيراً سلبياً”.

 

ويعد العلاج المعرفي نموذجاً محدد البناء، من حيث الوقت والأهداف فهو علاجٍ قصير الوقت، يستخدم بفعالية مشتركة بين المعالج، والمريض وقد استخدم بنجاح في علاج كثير من الاضطرابات النفسية مثل: الاكتئاب، والقلق، ونوبات الهلع، والوسواس القهري، والاضطرابات النفس – جسدية، واضطرابات الشخصية المختلفة.

 

فالتشوهات المعرفية، والأفكار السلبية التي تسيطر على مجمل تفكير المرء – تسمى مخططاتٍ “Schemes” – تتطور، وتنمو من خلال الخبرات المبكرة في حياة الفرد. فمثلاً الشخص الذي يفسر كل خبراته وفقاً لمخططه المعرفي: “الكل أو لاشيء” فإن تفكيره، وانفعالاته، وسلوكياته محددة بفكرة “إذا لم أقم بعمل كل شيء بجداره فهذا يعني أني فاشل تماما”، وهو على الدوام يتفاعل مع المواقف، والأحداث، ومجمل حياته بناءاً على هذه المخطوطة، وما تعدى ذلك فهو لا يندرج في نطاق اهتمامه.

 

ويعتبر العلاج المعرفي منحى علاجياً يندرج ضمن مجموعة من المناحي العلاجية، إذ يؤكد هذا المنحى العلاجي على أهمية العمليات المعرفية في تحديد، وتشكيل السلوك الإنساني، فالمعالجون المعرفيون يجمعون على أن السلوك، والانفعال هما إلى حد كبير نتاج تقييم المرء للأحداث، وللمواقف، وللعالم، ولذاته، وهذا التقييم يتأثر بمعتقداته، وافتراضاته، والصور المتخيلة لديه، وهذه العمليات المعرفية وفقاً لهذا الاتجاه تصبح هي المستهدفة في العملية العلاجية.

إلى لقاء قادم بعون الله

 

من موقع فريق النجاح

http://www.najahteam.com/node/4339